من آثار بلادي
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
من آثار بلادي
من خواطر الشيخ احمد الضحيك
من آثار بلادي
قد يظن القارئ إلى أنني سأغوص به في أعماق العصور الغابرة فأستخرج له صورة أثرية لقصر مشيد قد غفل الزمان عن ذكره أو معلم حافل بالآثار أو موقع أثري ممتلئ بالتحف النادرة قد فطنت له حيث غفل عنه المنقبون ولكنني في الواقع سأتحدث عن بيت متواضع لا تبدو عليه ملامح العظمة قد هرم وبلغ من العمر عتيا فجدرانه تصدعت وتبعثرت بعض أسسها وأصبحت ملاذاً ومأوى للحشرات ،والبوم قد زاره وبنى فيه أعشاشه وأرضه تشققت وتخلّت وقد نالته خطوب الزمان حتى غيرت الكثير من معالمه وأصبح أشبه شيء بهيكل عظمي لإنسان قد بلي وتقطعت أوصاله حتى ليحسبه الناظر إليه أو النازل فيه أنه سيخر راكعاً لتوه وأن المنطقة قد أصابها زلزال أتى على كل شيء إلا كبيرهم هذا.
ولكن مع ذلك فهذا البيت بما يحمله من صور وآثار عن الماضي أهم من القصور والقلاع والمتاحف وهو قناة فضائية ناطقة عن تقاليد وأعراف الأجداد ومقدرتهم على التكيف والتأقلم مع الظروف الصعبة التي تفرضها الطبيعة عليهم ولكن لقراءة هذه الصور نحتاج إلى دليل أو خبير متبصر بحقائق هذا البيت وسكانه فتحت كل حجر وكدر وعند كل شجيرة وفسيلة ،هناك قصة وحكاية ورواية.وشغفي بهذا البيت وعنايتي به وكونه مبني من الحجر هو الذي شفع له من أن تمسه يد الزمان بالدمار والزوال كغيره من البيوت فهو فريد عصره ووحيد زمانه وشاهد على العصر السابق وعندما كنت أزور هذا البيت بعد قطع مسافة طويلة من السهول والوديان كان يتملكني شعور بالهدوء والطمأنينة والسكينة وكأنني قد تحولت بشكل خاطف من هذا العصر بما فيه من تعقيدات وأزمات إلى العصور السابقة الغراء فأشهد بعيني تلك العصور الجميلة ، مع ما فيها من القسوة وخشونة العيش إنها عصور العربية الأولى ،فأرى العرب في بساطتهم وقد اكتفت من اللباس بأكسية الكرابيس وأردية الأشعار ،وقمص الأوبار ،فإذا أعوزها ذلك لبست الظل ،وافترشت الرمل ،غير ناقمة ولا ساخطة ،ولا متبرمة بقضاء الله وقدره في قسمة أرزاقه بين عباده ،ولا باكية حظها من رخاء العيش ولينه .فالأسرة تستغني عن كل ما نعده اليوم من ضرورات الحياة باكتفاء ذاتي،فبدل الأفران وازدحام الناس عليها وما تشهده الأسرة من عوز لرغيف الخبز هناك التنور،وبدلاً من الوقود والمحطات الحرارية والكهربائية هناك روث الحيوانات والكانون والفوانيس البسيطة ، والأسرة تستخدم الرحى لصنع الطحين بدلاً من الطواحين ،وتصنع الأحذية بالاعتماد على الخشب والجلود،وتستخدم البغال والحمير ليركبوها وزينة، وهكذا فالبيئة تبقى نظيفة من دخان المصانع والمعامل والسيارات في هذه البيئة النظيفة كانت تتفتق قريحتي الدراسية فلا تحلو لي الدراسة والقراءة إلا هناك وكنت أسير ورفيقي جدول النهر تترقرق المياه فيه، حاملاً بيدي عوداً أرسم فيه على قارعة الطريق الخرائط والمصورات، وفي نهاية المشوار كم كنت أجد من المتعة وأنا عائد إلى ذات البيت عندما أمر على هذه المصورات مروراً سريعاً أسترجعها في ذاكرتي والتي قد تبقى لأيام قبل أن تعبث بها الأقدام.في هذا البيت عثرت على أطلال نافذته لوحة أثرية رائعة إنها تتحدث عن وسيلة قديمة من وسائل التسلية والرياضة الفكرية قد غفل عنها الناس اليوم أمام كثرة هذه الوسائل وتنوعها من جرائد ومجلات ومحطات فضائية وغيرها ،هذه النافذة الأرضية كانت تطل على الطريق الوحيد في القرية بحيث يستطيع الجالس خلفها رصد كل حركة على الطريق فكان الزوجان(الجد والجدة) الذين عاركا الحياة طويلاً ونازلاها في أكثر من ميدان ثم استسلاما لها وتركا النزال والصراع لغيرهما ،يمضيان ساعات فراغهما الطويلة متكئين خلف هذا المرصد حيث نسمات الهواء النقي ومنظر الخضرة والمياه تنساب من حولهم يتبادلان أطراف الحديث، فإذا صدف أن سمعا صوتاً ما يخترق حجب الصمت الملقية بظلالها على المكان فكان الزوج يبادر بالسؤال عن مصدر هذا الصوت فيصغي كل منهما باهتمام بالغ ويستخدم فراسته ليعرف هذا المصدر فتقول الزوجة بعد تفكير إنه من الجهة الشرقية فقد يوافق حدسه ما قالت،فيردف قائلاً :ما تظنين وقع هذا الصوت ؟فتقول إنه وقع حوافر دابة نشطة ، يعتليها شاب صغير السن .فيعترض الزوج ويقول لها ما أظن ذلك إنني أسمع صوت سعال الراكب أحسبه شيخاً هرماً قد ذرت به الأيام حتى ليعدو به حماره مسرعاً كأنه يحمل فتىً خفيف الوزن، وقد تعترض الزوجة بأدلة تدعم بها رأيها ولا يقطع جدالهما إلا ظهور بطل المشهد أمام المرصد عياناً فيحدق به الاثنان طويلا ً حتى يبتلعه الطريق، وكثيراً ما يظهر الفرح والسرور على وجه الفريق الرابح بقدر ما يظهر الوجوم والانكسار على وجه الفريق الخاسر .ويعودان لجلستهما الأولى وقد شحنا بشريط جديد من الأسئلة فيطلق أحدهما أو كليهما تنهدات طويلة كأنها أنغام الشارة الموسيقية التي تسبق المسلسلات اليومية فيبدأ حديث جديد عن الراكب من يكون ؟وابن من ؟وكم عدد أخواته؟وما هي قصة زواجه؟...ولا يقطع حديثهما الطويل إلا سماع صوت جديد يخترق ظلال الصمت القابع خلف النافذة ،وهنا ينتهي المسلسل السابق ويبدأ مسلسل جديد بأدوار جديدة وببطل جديد وهكذا تعاد الصورة مرات عديدة في اليوم الواحد دون أن تتسرب خيوط الملل إلى نفسيهما وهما في انسجام كامل وعبثاً عندما كان يدخل أحد الأولاد عليهما وهما في تلك الحالة التي تحدثنا عنها فكانا يشعران بالضيق والحرج خوفاً من أن يقطع عليهما سلسلة أفكارهما مع المسلسل الذي يتابعانه من هذه النافذة.هذا الحديث وهذا الاهتمام يفسر لنا سبب تمتع أهل القرى بذكاء وفراسة عظيمة فهم يحفظون الأنساب ويعرفون أصل الإنسان وفصله من النظرة الأولى ويتمتعون بالحنكة والبداهة لتدربهم على ذلك . دقق في 2/2/2009م
من آثار بلادي
قد يظن القارئ إلى أنني سأغوص به في أعماق العصور الغابرة فأستخرج له صورة أثرية لقصر مشيد قد غفل الزمان عن ذكره أو معلم حافل بالآثار أو موقع أثري ممتلئ بالتحف النادرة قد فطنت له حيث غفل عنه المنقبون ولكنني في الواقع سأتحدث عن بيت متواضع لا تبدو عليه ملامح العظمة قد هرم وبلغ من العمر عتيا فجدرانه تصدعت وتبعثرت بعض أسسها وأصبحت ملاذاً ومأوى للحشرات ،والبوم قد زاره وبنى فيه أعشاشه وأرضه تشققت وتخلّت وقد نالته خطوب الزمان حتى غيرت الكثير من معالمه وأصبح أشبه شيء بهيكل عظمي لإنسان قد بلي وتقطعت أوصاله حتى ليحسبه الناظر إليه أو النازل فيه أنه سيخر راكعاً لتوه وأن المنطقة قد أصابها زلزال أتى على كل شيء إلا كبيرهم هذا.
ولكن مع ذلك فهذا البيت بما يحمله من صور وآثار عن الماضي أهم من القصور والقلاع والمتاحف وهو قناة فضائية ناطقة عن تقاليد وأعراف الأجداد ومقدرتهم على التكيف والتأقلم مع الظروف الصعبة التي تفرضها الطبيعة عليهم ولكن لقراءة هذه الصور نحتاج إلى دليل أو خبير متبصر بحقائق هذا البيت وسكانه فتحت كل حجر وكدر وعند كل شجيرة وفسيلة ،هناك قصة وحكاية ورواية.وشغفي بهذا البيت وعنايتي به وكونه مبني من الحجر هو الذي شفع له من أن تمسه يد الزمان بالدمار والزوال كغيره من البيوت فهو فريد عصره ووحيد زمانه وشاهد على العصر السابق وعندما كنت أزور هذا البيت بعد قطع مسافة طويلة من السهول والوديان كان يتملكني شعور بالهدوء والطمأنينة والسكينة وكأنني قد تحولت بشكل خاطف من هذا العصر بما فيه من تعقيدات وأزمات إلى العصور السابقة الغراء فأشهد بعيني تلك العصور الجميلة ، مع ما فيها من القسوة وخشونة العيش إنها عصور العربية الأولى ،فأرى العرب في بساطتهم وقد اكتفت من اللباس بأكسية الكرابيس وأردية الأشعار ،وقمص الأوبار ،فإذا أعوزها ذلك لبست الظل ،وافترشت الرمل ،غير ناقمة ولا ساخطة ،ولا متبرمة بقضاء الله وقدره في قسمة أرزاقه بين عباده ،ولا باكية حظها من رخاء العيش ولينه .فالأسرة تستغني عن كل ما نعده اليوم من ضرورات الحياة باكتفاء ذاتي،فبدل الأفران وازدحام الناس عليها وما تشهده الأسرة من عوز لرغيف الخبز هناك التنور،وبدلاً من الوقود والمحطات الحرارية والكهربائية هناك روث الحيوانات والكانون والفوانيس البسيطة ، والأسرة تستخدم الرحى لصنع الطحين بدلاً من الطواحين ،وتصنع الأحذية بالاعتماد على الخشب والجلود،وتستخدم البغال والحمير ليركبوها وزينة، وهكذا فالبيئة تبقى نظيفة من دخان المصانع والمعامل والسيارات في هذه البيئة النظيفة كانت تتفتق قريحتي الدراسية فلا تحلو لي الدراسة والقراءة إلا هناك وكنت أسير ورفيقي جدول النهر تترقرق المياه فيه، حاملاً بيدي عوداً أرسم فيه على قارعة الطريق الخرائط والمصورات، وفي نهاية المشوار كم كنت أجد من المتعة وأنا عائد إلى ذات البيت عندما أمر على هذه المصورات مروراً سريعاً أسترجعها في ذاكرتي والتي قد تبقى لأيام قبل أن تعبث بها الأقدام.في هذا البيت عثرت على أطلال نافذته لوحة أثرية رائعة إنها تتحدث عن وسيلة قديمة من وسائل التسلية والرياضة الفكرية قد غفل عنها الناس اليوم أمام كثرة هذه الوسائل وتنوعها من جرائد ومجلات ومحطات فضائية وغيرها ،هذه النافذة الأرضية كانت تطل على الطريق الوحيد في القرية بحيث يستطيع الجالس خلفها رصد كل حركة على الطريق فكان الزوجان(الجد والجدة) الذين عاركا الحياة طويلاً ونازلاها في أكثر من ميدان ثم استسلاما لها وتركا النزال والصراع لغيرهما ،يمضيان ساعات فراغهما الطويلة متكئين خلف هذا المرصد حيث نسمات الهواء النقي ومنظر الخضرة والمياه تنساب من حولهم يتبادلان أطراف الحديث، فإذا صدف أن سمعا صوتاً ما يخترق حجب الصمت الملقية بظلالها على المكان فكان الزوج يبادر بالسؤال عن مصدر هذا الصوت فيصغي كل منهما باهتمام بالغ ويستخدم فراسته ليعرف هذا المصدر فتقول الزوجة بعد تفكير إنه من الجهة الشرقية فقد يوافق حدسه ما قالت،فيردف قائلاً :ما تظنين وقع هذا الصوت ؟فتقول إنه وقع حوافر دابة نشطة ، يعتليها شاب صغير السن .فيعترض الزوج ويقول لها ما أظن ذلك إنني أسمع صوت سعال الراكب أحسبه شيخاً هرماً قد ذرت به الأيام حتى ليعدو به حماره مسرعاً كأنه يحمل فتىً خفيف الوزن، وقد تعترض الزوجة بأدلة تدعم بها رأيها ولا يقطع جدالهما إلا ظهور بطل المشهد أمام المرصد عياناً فيحدق به الاثنان طويلا ً حتى يبتلعه الطريق، وكثيراً ما يظهر الفرح والسرور على وجه الفريق الرابح بقدر ما يظهر الوجوم والانكسار على وجه الفريق الخاسر .ويعودان لجلستهما الأولى وقد شحنا بشريط جديد من الأسئلة فيطلق أحدهما أو كليهما تنهدات طويلة كأنها أنغام الشارة الموسيقية التي تسبق المسلسلات اليومية فيبدأ حديث جديد عن الراكب من يكون ؟وابن من ؟وكم عدد أخواته؟وما هي قصة زواجه؟...ولا يقطع حديثهما الطويل إلا سماع صوت جديد يخترق ظلال الصمت القابع خلف النافذة ،وهنا ينتهي المسلسل السابق ويبدأ مسلسل جديد بأدوار جديدة وببطل جديد وهكذا تعاد الصورة مرات عديدة في اليوم الواحد دون أن تتسرب خيوط الملل إلى نفسيهما وهما في انسجام كامل وعبثاً عندما كان يدخل أحد الأولاد عليهما وهما في تلك الحالة التي تحدثنا عنها فكانا يشعران بالضيق والحرج خوفاً من أن يقطع عليهما سلسلة أفكارهما مع المسلسل الذي يتابعانه من هذه النافذة.هذا الحديث وهذا الاهتمام يفسر لنا سبب تمتع أهل القرى بذكاء وفراسة عظيمة فهم يحفظون الأنساب ويعرفون أصل الإنسان وفصله من النظرة الأولى ويتمتعون بالحنكة والبداهة لتدربهم على ذلك . دقق في 2/2/2009م
وليد الضحيك- المساهمات : 23
تاريخ التسجيل : 21/02/2010
العمر : 55
الأخ العزيز وليد
كل الشكر لكم أخي الغالي وللأخ المبدع الأصيل الأستاذ أحمد......مودتي واحترامي...دمت ودام ألق إبداعك.
عبد الرحمن- المساهمات : 230
تاريخ التسجيل : 23/01/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى